10‏/6‏/2012

كانت هُنـا .. جدَّتي !







كانت هنا جدتي ..
بعد واحد وعشرين عاماً ..
مازلت أذكرها ..
مازلت أذكر بسمتها ..
و جميل فطرتها ..
و بريقاً في سناء حين ضحكتها ..
و براءة في طهارة حين تعبدها ..
و حجابها الطاهر الذي يسترها ..
و دعاءها النقيّ عند سجدتها ..
كانت هنا جدتي ..
آه .. يا زماني
قد عدت بي .. إلى ماضيك ..
إلى تلك الجدران ..
الّتي احتوتني .. إذ كنتُ الرّضيع ..
قد أحسن الله مسكنها .. وجمّلت فينا الصنيع
ونفحات من القبة الخضراء تزورنا ..
فهذا جوار الرسول .. وهذا البقيع ..
وهذه أزقّـة لطالما مررنا بها ..
ونفوسٌ طيّبة .. لا تمل من ذكرها ..

عدت بي إلى أيام طفولتي الجميلة ..
حين أمرح .. فلا همٌّ يؤرقني ..
و حين أبتسم .. فالكل يسعدني ..
و حين أجري .. وحين أرضع ..
جميع من حولي يرقبني ..
وحين أبكي .. وحين أحزن ..

كانت بالحنان تضمني ..
وعلى حِجرها تجلسُني ..
وتفتح عينايَ .. إلى مُستقبلٍ بعيدْ ..
ستَكْبُرُ يا وَلدي .. و تُقاومُ الهمَّ الشديدْ
ولكنّكَ يَا ولدي .. ستلقاهَا بالصَّبْرِ السديدْ
ستقرُّ بكَ يَا ولدي .. عيْنَاي وعيْنَا والِدكْ ..
وستُسعِدُ قلبَ أُمِّكْ ..وسَيسْنو سُؤددكْ ..
هذا رجائي يَا ولَدي .. و حُلْمُ حياتي ..
طلبتُ ربّي تحقيقهُ .. بي .. أو بعدَ مماتي ..

يَا ولدي .. وابنَ ولدي ..
جعلكَ اللهُ بارًّا كَـأبيكَ الّذي سيُضحِّي ليسعدكْ ..
ولأبيك .. جعلَ اللهُ ابنَكَ صالحًا ..ليَكونَ عوْنًا ليُسنِدَكْ ..
وبارَكَ اللهُ دَارًا .. جمْعتكم وَ ضمتكم ..
وطابَ لكم للحبيبِ جِوارَ السَّكنْ ..
آه .. ياَ زماني ..
قدْ فجَّرتَ أشجاني ..
أدْمَيْتَ قلْبـي .. بذكْرَياتٍ لا أنسَاها .. ولا تنسَاني ..
على أطلالِك الآن .. أبكي .. والدَّمعُ الحزينُ أضناني ..
يَا ليتكَ تعودُ بِكِياني ..
إلى ماضي الزّمنْ ..
خُذني إليْكَ طفْلًا ..
أحْبُو فيحتوينِي ذلكَ الحُضنْ ..
أصْرخُ .. أبْكي .. أقُومُ .. و أقعُد ..
خذني إليْك .. كيفمَا تشاءْ .. وكيفَمَا تُريدْ ..
خذني إليْك .. فلقدْ سَئِمتُ هذهِ المِحَنْ ..
وهُنَا .. يعُودُ بريقُ جدَّتي ..
وكأنِّي نَارٌ أُوقِدتْ لحرقِ الأنبياء
وكأنّها نزَلَتْ عليَّ منَ العلياء ..
في بردٍ .. وسَلام ..
لتُطفئَ نيراني ..
تذكِّرُني بهمساتهَا .. ونقشها لمبادئ فِطْرَتِهَا ..
ليسَ الهمُّ .. من ربِّكَ أكبرُ !إنّمَا ربّكَ تعالى الأجلُّ الأكبَرُ ..
هكذا كانتْ جدّتِي ..
وعلى مبادِئِهَا .. أكْبُرُ ..

فلقد علمتني جدّتي ..
مُنْذُ طُفولتي ..
إنّ عبدًا مثيلك ..
مَا هدَّك .. ولا بناك ..
ولا أفقرك .. ولا أغناك ..
ولا أماتك .. ولا أحيَاك ..
ولا أسعدك .. ولا أبكاك ..
ولا أفرحك .. ولا أضناك ..
إنَّما ذلكَ كُلَّهُ ..
لربِّكَ الَّذي سوَّاك ..
آه .. يا زماني ..
قدْ جرَّعتني أحزاني ..
وجرَّدتني من كِياني ..
وارتحّلْتَ بي .. بعيدًا .. بعيدًا ..
إلى عالَمٍ جميلْ ..
إلى قَومٍ لهُم عبقٌ أصيلْ ..
حنيني اليوْمَ إليهمُ ..
جعلَ دمعي يسيلْ ..
لَكَم اشْتَقتُ إلى تِلْكَ الأيَّام ..
لَكَم شدَّني ذاكَ الحَنِينْ ..
لَكَم اشْتقتُ إلى جدَّتي ..
و إلى تقبيل ذلكَ الجبينْ ..
سَأظلُّ طوالَ عُمري هائمًا ..
في أحلى ذكرياتِ السِّنين ..
سأبكي عليكِ في كلِّ ليلة ..
وسُيضْنيني ذلكَ الأنينْ ..

يا أغلى امرأة عرفتُهَا ..
يا أطْهَرَ امرأةٍ عشقْتُهَا ..
لَكَم اشْتقْتُ إلى أحضانك ..
وإلى فِكْر عقلِكِ الرَّزين ..

ستبْقين في القلب خالدة ..
حتى أُحمَّل كالكفيـن ..
ستبقين معنًى ساميًا ..
للتقى و الصَّالحين ..
ستبقين عرشًا عاليًا ..
شامخة المكانة و العَرين ..
ستبقين معدَنًا خالصًا ..
أنفَس .. غالٍ .. وثمين ..
في ثرى البقيعِ أنشدك ..
حيثُ الأولياءُ والمتَّقين ..

ها أنا على قبرك باكيٌ ..
أهديكِ طوْقَ الياسمِين ..
و إكليل من الوَرود إليكِ ..
وفاتحة تُقرأ مع المُؤمنين ..

ابنُكِ الآن .. على الضريحِ منكسرٌ ..
قدْ أثقَلَتهُ هُمومُ السِّنين ..
قدْ تجرّعَ الآلامَ بحورًا ..
قدْ أمسَى في كربهِ الحزين ..
ما زالَ يذكُرُ كلماتكِ ..
وهمساتكِ إذ تنصحين ..


ما زالَ على مبادِئكِ صابرًا ..
مستمِدًّا قُوَّتَهُ منَ اليَقين ..
وإيمانٍ يُقوِّي عزمهُ ..
وثباتٌ بدربِي القرين ..
فمنكِ تعلَّمتُ توكُّلي ..
ألهمتِني دُروبَ الصَّالحين ..
رحمةُ اللهِ على زوجكِ ..
وسلامٌ عليكِ في عِلِّيِّين ..
يا جدَّتي .. هذهِ رِسَالتي ..
قدْ عَرَفتُ اليُتمَ بعدكِ ..
وأدْمَتْني كربتي ..
قد عشتُه عقب يوم كئيب ..
قيلَ فيهِ مجلجلًا ..
قد ماتت .. جدَّتي .
:
حلمي القرشي :
 الخميس  : 26 / يناير / 2012


0 التعليقات :

أضف تعليق