في قراءة متأنية للأحداث التي شهدتها مصر الشقيقة خلال الأسابيع الماضية ؛ رأينا كيف استطاع الشعب المصري أن يصدع بأمره ويعلن ثورته بعد سنين من الفساد والقمع ، بسبب فئة فاسدة تولت زمام الأمر في السنوات الأخيرة ، فأضاعت البلاد وأضرت بالعباد ، وهزت هيبة مصر المحروسة التي لطالما كانت صمام أمان للأمة منذ عهود ماضية وحتى عصرنا الحديث ، بيد أنه وفي تسارع الأحداث والسقوط المروع للنظام المصري لابد أن نستخلص الدروس والعبر من هذه الأحداث بشكل من الإنصاف والعقل بعيداً عن الترهات والعواطف الجياشة التي قد تعمي البصيرة عن رؤية الحقائق بحيثياتها المختلفة .
ففي بادئ الأمر أستطيع أن أقول أن ما حدث في مصر كان مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق ، قد لا تكون غريبة على شعب لطالما اتسم بسعيه للحرية والعدالة ، وثوراته المتلاحقة في العصر الحديث ابتداءً من ثورة عرابي مروراً بأحداث 1919 م ومروراً بنكسات 1948 التي فجرت ثورة الضباط الأحرار عام 1952م ، والتي كان من نتاج سياسات قادتها في تلك الحقبة الثورية مرور مصر بحروب أثقلت كاهلها كالعدوان الثلاثي وحرب الأيام الستة وصولاً إلى أيام النصر في شهر رمضان ، لتأتي بعدها حقبة جديدة ساعية نحو السلام فتم توقيع المعاهدات والاتفاقيات حتى وصل سدة الحكم الرئيس المصري حسني مبارك الذي أعاد مصر إلى حضن العروبة بعد انقطاع بسبب سياسات السلام التي انتهجها النظام المصري في عهد السادات ، فضلاً عن قيامه بمشاريع تنموية لا يستطيع أحد إنكارها ، فتاريخه في حرب أكتوبر وقيادته للقوات الجوية وحديث كل من كان يشاركه الدراسة في المجال العسكري أعلن وبكل شفافية عن تفوق مبارك في هذا المجال وبزوغ نجمه فيه ، ولعل هذا هو الذي ساعده بشكل كبير لأن يتم اختياره نائباً لرئيس الجمهورية ، بل ليكون هو رئيس الجمهورية فيما بعد ، إيجابيات وميزات كثيرة تمتع بها مبارك ، وإنجازات أخرى قدمها لمصر وأهلها لابد أن نذكرها له ، فالمبدأ الذي نتبعه في ذلك ألا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا ، وهذا من العدالة أن نذكر للرجل ما قدمه خلال حقبة كبيرة من حياته في خدمة هذا البلد الشقيق الذي تربطنا به علاقات أخوية وجغرافية واجتماعية وسياسية ، إلا أن مبارك أضاع كل هذه المنجزات وكل هذا التاريخ بسياسة أقل ما نقول عنها أنها سياسة فاشلة ، فمن المواقف التي كانت سبباً في سقوط عرشه تلك السياسة التي بسببها ارتمى في أحضان أمريكا وإسرائيل ، وتنفيذه للأجندة الصهيونية والاستعمارية في المنطقة والتي حولت مصر من دولة تخدم العروبة وقضاياها إلى كيان متخاذل منحاز للسياسات والأجندة الأمريكية في المنطقة مما جعله العميل المهم في المنطقة ، مع تهميشه لكافة الأطياف الوطنية الحرة التي رفضت هذه السياسة أن تكون في مصر ، فضلاً عن سعيه للاستحواذ على السلطة وتوريثها في ابنه الذي برز في فترة وجيزة من الزمن والذي كان سبباً أساسياً في وصول الأوضاع في مصر إلى طريق مسدود بسبب الزمرة الفاسدة التي أحاطت به وتولت زمام الأمور في البلاد مما أثار الغضب الجامح لدى الشعب الذي انتفض لأجل حريته وكرامته التي أضاعتها هذه الزمرة بالسياسات الانحيازية للمصالح الشخصية والفساد الذي أكل الأخضر واليابس وجعل شرذمة قليلة تتحكم في رقاب العباد وأموالهم ومكدراتهم بينما الشعب يتضور جوعاً وفقراً وظلماً وطغيانا واستبداداً حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه .
أعود فأقول إن الأمر كان مفاجئاً ولكنه في الوقت ذاته أحيى روح الفخر والاعتزاز في نفس كل مواطن عربي شريف يرفض الظلم والطغيان والاستبداد ، ويسعى لأجل حريته وكرامته ، فما حدث في مصر يعطينا كثيراً من الدروس والعبر التي لابد أن نستفيد منها ، ومن المفترض أن تستفيد منها تحديداً الأنظمة العربية الحاكمة اليوم ، فالفساد المنتشر أثقل كاهل المواطن العربي من المحيط إلى الخليج ، وغياب العدالة والحقوق الإنسانية تزداد يوماً إثر يوم ، ليزيد معها الاحتقان الداخلي ، وأخشى أن تتفجر غاضبة ثائرة عندها لن يفيد الرجوع إلى الوراء ومحاولات التغيير والإصلاح التي لطالما طالبت بها الشعوب العربية ، وأصبحت مطلباً ًأساسياً مع متغيرات الزمن وتعاقب الأحداث .
إن الثورة التي أحدثها شباب مصر الشقيق لهي بحق ثورة علمت العالم بأسره كيف هي إرادة الشعب الحر الأبي حينما تتفجر ، فالأمر المثير للفخر أن هؤلاء الشباب في زهرة أعمارهم استطاعوا أن يقودوا هذا الشعب إلى فجر الحرية ، برقي فكرهم ، وسعة ثقافتهم ، وقدرتهم الفائقة على استخدام التقنية الحديثة في إنجاح ثورتهم ومجازفتهم وتضحيتهم بدمائهم في سبيل كرامة بلدهم حتى سقط منهم الشهداء بدمائهم الزكية ، ولعل الجميل في الأمر أن هؤلاء الشباب أدركوا تمام الإدراك تلك الخطط التي حاول البعض تنفيذها لاجتثاث هذه الثورة والقضاء عليها بدءً من سحب الأمن والشرطة أثناء أيام الاعتصام فما كان منهم إلا أن شكلوا لجاناً شعبية حمت أمن البلاد وسلامة المواطنين ، أدركوا محاولات أولئك الساسة الذين ظلوا قابعين في بيوتهم وأروقتهم الاستفادة من هذه الثورة للسقوط عليها والاستيلاء على نجاحها لصالح أنفسهم ، أدركوا كل الأباطيل التي كان يبثها البيت الأبيض وكأنه الآمر الناهي في مصر بعد أن انقلب على مبارك وقد كان الحامي الأمين لهم ولسياساتهم في المنطقة ، وقفوا جميعاً في صف واحد مسلميهم ومسيحيهم ، شبابهم وفتياتهم ، ليؤكدوا أن كل الأحداث الطائفية التي كانت في الفترة الماضية لافتعال فتيلها بين ديانتي الشعب كانت ضمن خطط مدروسة خارجية بتعاون داخلي لإحداث الفوضى والفتنة الطائفية في أرض الكنانة ، بينما عندما برزت الحقائق وجدنا كيف هو هذا التلاحم الجميل ، فالجميع وضع الوطن في نصب عينه فتحقق النصر ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .
لقد كان أمام مبارك فرصة تاريخية ليكون زعيماً مخلداً في مصر تبكيه العيون حين وداعه ، بل وليوضع له نصب تذكاري في ميدان التحرير الذي كان المنطلق لإسقاط عرشه ، كانت أمامه تلك الفرصة الكبرى لو أنه بادر بالإصلاح والتفت إلى شعبه واستمع لهم وحقق مطالبهم وحمى أمنهم وأرواحهم ودماءهم ، وحقق لهم الحرية والديمقراطية في حماية الدستور والقانون ، فمثلما كان بطلاً في حرب أكتوبر كان من الممكن أن يكون البطل القومي الخالد كنيسلون مانديلا الذي وبرغم رحيله عن السلطة إلا أنه بقي الخالد المحترم من دول العالم قاطبة ، ولكن ما الحيلة وقد ضاع ما ضاع ، وفات ما فات .
ولا أخفيكم أنني أعجبت فعلاً من الموقف الذي تبناه الجيش في مصر ، فلقد أثبت لنا أن الجيش جزء لا يتجزأ من الشعب ، يحميه ويحافظ عليه داخلياً وخارجياً بمنأى عن الشخصيات والزعامات ، فلم يقف في صف مبارك منحازاً له ويقمع الشعب المتظاهر وقد كان بيده ذلك وكان يمكنه القضاء على أولئك القوم بلا عناء ، بل أبرز موقفاً وطنياً يستحق عليه كل التحية والتقدير من كل مواطن عربي حر أبي .
إن من الواجب الآن على الأنظمة العربية أن تلتفت إلى شعوبها ، وأن ترتمي في أحضانهم فهم الآن صمام الأمان لأي نظام حاكم ، فلقد رأينا نتائج الارتماء في أحضان أمريكا وسياستها المنحازة لإسرائيل ؛ فهل استفاد منها مبارك لحماية عرشه وهيبة سلطانه ؟ كلا ، لقد كان البيت الابيض أول من تخلى عن مبارك وضحى به خوفاً على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وهذا هو المعتاد من أمريكا التي لا تبحث فقط إلا عن مصالحها ومصالح إسرائيل ، فليس لها صديق إلا ذلك ، فما فائدة الارتماء في أحضانها والسعي لإرضائها ؟ لذا لن تجد الأنظمة العربية حضناً آمناً إلا عند شعوبها ، فلتبادر الآن قبل فوات الأوان بعملية إصلاح شاملة تحقق العدالة وتحمي الحريات والحقوق الإنسانية ، وتقضي على الفساد وتحاسب روادها والمقصرين حتى يأخذ كل ذي حق حقه ، وحتى تحتفي الشعوب بأنظمتها وتحميها بدلاً من أن تنقلب عليها وتفرح بأهازيج رحيلها .
لقد قال المصريون كلمتهم ، واستعادوا كرامتهم ، وخاضوا مخاضاً عسيراً لأجل حريتهم ، وكانوا بحق نموذجاً مشرفاً يحق لنا أن نفخر ونعتز بثورتهم ، ومن هنا من أرض الوحي أرجو لمصر وشعبها الشقيق أن تنعم بعد اليوم بنسيم الحرية ، وأن ترقص على ترانيم العدالة سائلاً المولى أن يحرسها ويحرس كل أرض وطننا العربي الغالي من المحيط إلى الخليج .
11-3-1432
14-2-2011

0 التعليقات :